ما الفرق بين الإثبات الجنائي والمدني، وهل يتقيد القاضي الجنائي بطرق الإثبات الخاصة بالمسائل المدنية إذا عرضت عليه بمناسبة فصله في مسألة جنائية؟
يمكن القول بأن القاضي الجنائي يختلف عن القاضي المدني في نطاق وسائل الإثبات في العنصرين الآتيين:
1- حرية القاضي في تكوين عقيدته، وهو ما يسمى بمبدأ الاقتناع القضائي:
فالقاضي الجنائي حر في تكوين عقيدته من أي دليل مطروح في الدعوى، وأنه غير ملتزم بإصدار حكمه بالإدانة أو عدم الإدانة لتوفر دليل معين؛ فجميع الأدلة في الدعوى الجنائية خاضعة لتقديره، وله مطلق الحرية في استخلاص قناعته من أي دليل مطروح في الدعوى.
وهو حال يختلف عن القاضي المدني الذي يتقيد بتدرج أو تسلسل نظامي لوسائل الإثبات، أو بدليل بعينه لا يجوز له أن يقضي بالحق بدونه. ولم يتضمن نظام الإجراءات الجزائية السعودي نصاً صريحاً لهذا المبدأ وإنما استقر العمل القضائي عليه…في المقابل؛ حرصت بعض القوانين المقارنة على النص على هذا المبدأ صراحة، مثال قانون الإجراءات الجنائية الفرنسي في المادة 427 والتي نصت على أنه: “تثبت الجرائم بجميع طرق الإثبات؛ مالم ينص القانون على خلاف ذلك.”
٢- الدور الإيجابي للقاضي الجنائي، وهو ما يسمى بمبدأ الإثبات الحر:
فالقاضي الجنائي غير ملزم بما يقدمه أطراف الدعوى الجنائية من أدلة؛ فهو يتمتع بدور إيجابي يمكّنه من اتخاذ ما يراه من إجراءات للكشف عن الحقيقة، فهو على عكس القاضي المدني والخاضع لمبدأ الحياد، والمقيد بطرق إثبات معينة، إذ يلتزم بما يقدمه له الخصوم من أدلة. فالقاضي الجنائي يبحث عن الحقيقة الواقعية؛ في حين أن القاضي المدني لا تعنيه سوى الحقيقة الشكلية. ويتجلى الفارق بين القاضي الجنائي والقاضي المدني في نطاق هذا المبدأ في المثال الآتي: إذا أقرّ المدعى عليه في دعوى مدنية بالحق المدعى به؛ فعلى القاضي المدني أن يقضي عليه بالحق المقر به، دون مناقشة صحته. في حين أن القاضي الجنائي -لما يتمتع به من دور إيجابي- له أن يتثبت من صحة اعتراف المتهم، ومدى مطابقته للواقع، ومسايرته لمنطقية باقي الأدلة، وله تجزئه الاعتراف أيضاً. ينبغي ملاحظة أن هناك بعض الضوابط لحرية القاضي الجنائي في الإثبات؛ فيجب أن يكون الدليل الذي استند إليه موجوداً وله أصل ثابت في الأوراق، وأن يكون من شأنه أن يكوّن القناعة القضائية، وأن يطرح للمناقشة في جلسات المحاكمة؛ فلا يقضي القاضي بعلمه الشخصي باعتبار أن ذلك يعد مفاجأة للخصوم ونجيب عن الجزء الثاني من التساؤل والمتمثل في مدى تقيد القاضي الجنائي بطرق الإثبات الخاصة بالمسائل المدنية إذا عرضت عليه بمناسبة فصله في مسألة جنائية على النحو الآتي: إذا نص نظام -مدني- على طرق معينة في اثبات المسائل التي ينظمها، فهنا يتقيد القاضي الجنائي بهذه الطرق عند اثباته لتلك المسائل.
مثال: نصت المادة الثانية من نظام مكافحة الاحتيال المالي وخيانة الأمانة على أنه: “يعاقب بالسجن مدة لا تتجاوز (خمس) سنوات، وبغرامة مالية لا تزيد على (ثلاثة) ملايين ريال، أو بإحدى هاتين العقوبتين؛ كل من استولى دون وجه حق على مال سُلّم إليه بحكم عمله أو على ســبيل الأمانة، أو الشــراكة، أو الوديعــة، أو الإعارة، أو الإجـارة، أو الرهن، أو الوكالة، أو تصرف فيه بسوء نية، أو أحدث به ضرراً عمداً، وذلك في غير المال العام.”..
وهنا نصت المادة على صورة من صور جريمة خيانة الأمانة وهي استلام العامل لمال من صاحب العمل بحكم عمله، مفاد ذلك ولازمه أن المنظم اشترط شرطاً مفترضاً في هذه الصورة من جريمة خيانة الامانة تمثل في صفة الجاني وهو أن يكون عاملاً لدى المجني عليه.. وبالرجوع إلى نظام العمل نجد أنه فرق في إثبات علاقة العمل بين العامل وصاحب العمل؛ حيث قرر أنه للعامل وحده إثبات علاقة العمل بكافة طرق الإثبات، في حين أن صاحب العمل لا يثبت علاقة العمل إلا كتابة، وهو ما قررته المادة الحادية والخمسون من نظام العمل السعودي…وفي المثال السابق إذا تقدم صاحب العمل بشكوى ضد العامل بجريمة خيانة الأمانة لمال تسلمه بحكم عمله، وأنكر العامل علاقة العمل، فهنا يجب أن يتقيد القاضي الجنائي بالقاعدة المقررة في نظام العمل، والتي مفادها أن العامل وحده هو الذي يثبت علاقة العمل بكافة طرق الإثبات عليه فلا يجوز أن تثبت النيابة العامة او القاضي الجزائي علاقة العمل بشهادة الشهود مثلاً، بل يجب أن تتضمن أوراق الإدانة عقد العمل بين المجني عليه والمتهم لإثبات علاقة العمل كشرط مفترض لجريمة خيانة الأمانة.
والعلة من ذلك بادية؛ وهي تجنب خلق حقائق قضائية متنافرة، فتقضي المحكمة المدنية بعدم ثبوت عقد علاقة بشهادة الشهود، ومن ثم تقضي برفض دعوى ثبوت علاقة العمل، ثم تقبل محكمة أخرى -الجزائية- قبول الاثبات بالشهادة، وتقضي بإثبات علاقة العمل…
ومن جانبنا نرى أنه قد يكون من المناسب النص في نظام الإجراءات الجزائية السعودي صراحة على مبدأ الاقتناع القضائي، مبدأ تقيد القاضي الجنائي بطرق الإثبات الخاصة بالمسائل المدنية إذا عرضت عليه بمناسبة فصله في مسألة جنائية؛ وذلك للحد من تباين الأحكام القضائية، ولتوحيد الاجتهادات، ولتعزيز الأمن القضائي والحق في التنبؤ المشروع بالأحكام القضائية.
د. فواز آل عيفان